عبد الحق بوينة

الحلقة 1 : فيزا 24 ساعة لدخول دولة الطوغو العظمى…

يوم 7 أكتوبر 2012… الأحد في أيام الله تعالى…على الساعة الواحدة صباحا، كانت الطائرة قادمة من الدار البيضاء تحلق في سماء أبيدجان…شدوا الأحزمة واستعدوا للنزول…من النافذة، تبدو أبيدجان في عرس ليلي، مهرجان أضواء متناثرة حول واد كبير يخترقها…هذه هي المدينة التي سأستقر فيها على الأقل ثلاث سنوات قابلة للتجديد…أعرف فيها كائنات لا تعلم بوجودي : الرئيس الحسن وطارا، اللاعب الكبير دروغبا والفيلة. لو قلبت الترتيب لكان أحوط وأصوب وأكثر تمثيلا للحقيقة … هكذا : دروغبا، الفيلة وفخامة الرئيس الحسن وطارا…لن يطير…أرجو ذلك على الأقل خلال ثلاث سنوات القادمة والقابلة للتجديد…

بدأت ألوك في خاطري اسم المدينة وأردده على طريقة الفلاسفة في توالد الأفكار والأسماء …مرة بعد مرة، أعبث بالاسم على طريقة الاشتقاق…او على طريقة “عاصفة في المخ” وأصلها بالإنجليزية “Brainstorming”

فجأة، قلت في نفسي : أبيدجان…عبيد جان…عبيد الجان….صحت : وجدتها!  كما صرخ إسحاق نيوتن عند سقوط التفاحة…الجاذبية تبقى هي هي… التفاحة والأرض، الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا…هل اطلع أحد غير الله تعالى على هذا الاشتقاق الغريب ؟ ربما … شدوا احزمتكم، أيها المسافرون على متن هذه الرحلة، عاصفة قوية وضباب كثيف فوق أبيدجان…هكذا صاح الربان…ستنتجه إلى المطار الدولي بعاصمة الطوو ونبقى هنالك حتى الصباح ثم نعود إلى أبيدجان بعد انجلاء الضباب…وهدوء العاصفة…معذرة أبيدجان… ليس فيك عبيد ولا جان !!!

هل حَوَّلَ عبيد الجان عاصفة في المخ إلى عاصفة حقيقية فوق سماء أبيدجان؟ لا أدري. لكن “وجب طلب التسليم من رجال البلاد”. هكذا يقولون عندنا. وللعلم، فرجال البلاد طبعا ليسوا هم رجال الدرك! تحياتي. وجب التصحيح لرفع اللُّبْس.

الساعة الثالثة صباحا، حطت الطائرة بالمطار الدولي لعاصمة الطوغو، الدولة المجاورة لساحل العاج. انتظرنا زهاء ساعة … دخل طاقم الطائرة مع السلطات في حوار شاق، كأنها طائرة مختطفة وبها مسافرون محتجزون من جنسيات مختلفة !

أخيرا وبعد … ربما بعد مفاوضات وتنازلات وشروط من الطرفين، أذنوا لنا بالنزول على أرض المطار المقدس! حمل إلينا الربان بشرى سارة : لقد قبلت سلطات المطار بدخول الفضاء المخصص للمسافرين لمدة لا تتجاوز 24 ساعة، قبل المغادرة من جديد نحو أبيدجان. لكن… علينا قبل ذلك الحصول على فيزا لقضاء 24 ساعة في دولة الطوغو العظمى.

نحن الآن في جوف الليل. الموظفون القائمون بشأن المطار عددهم قليل في هذا الوقت المتأخر. عدد المسافرين في القاعة لا يزيد عن عشرين شخصا.

قادنا أحد الموظفين إلى كشك صغير، كتب على مدخله “مكتب التأشيرات”…لا يوجد به أحد. خمنت أَنَّه ربما ذهب أحدهم لإيقاظ الموظف المكلف بوضع خاتم التأشيرة على الجوازات…تبا لهؤلاء المسافرين القادمين في جوف الليل!!! قد يكون قالها الموظف التعيس لمن أيقظه من النوم العميق. صيغة أخرى لدعاء الصباح في الأربعين النووية بدولة الطوغو العظمى!

بعد مدة، طلع علينا موظف عابس وزميلته…”مشعككة الرأس” كما يحلو للمغاربة وصف شعر الرأس المصفوف على طريقة الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط الجديد…تذكرون كونداليزا رايس؟ الزميلة ترتدي ملابس لا علاقة لها بالمطار، “كما فاقت جاءت”…في رجليها خلخال؟ عفوا، “صندلة ميكا” زرقاء، تختفي مقدمتها خلف وردة برتقالية كبيرة. ضع الألوان بعضها فوق بعض، لتكتمل الصورة لديكك.

مكتب التأشيرات صغير وضيق جدا. يتسع فقط لكرسي واحد والسيدة المحترمة التي تجلس عليه. بدأنا نتقدم إليها الواحد تلو الآخر…تأخذ الجواز، تدقق فيه ربما بإمعان أو هكذا خيل لي، ثم…ترميه على الأرض تحت الكرسي! قلتَ ترميه؟ نعم، هكذا تفعل. في فريقنا أطر بنكية عليا…مدراء ومدراء عامون…رأيتهم ينظرون إليها باستغراب شديد…ومن طرف خفي فقط. من يجرؤ؟  هنا في مطار دولة الطوغو الكل سواسية كأسنان المشط.

وقفنا جميعا خلف مكتب التأشيرات، ننتظر من سينقذ جوازاتنا المقدسة المكدسة تحت كرسي الموظفة المحترمة ويختم عليها تأشيرة 24 ساعة! وتلك محنة أخرى من المحن الكبرى!

نحن الآن في الهزيع الأخير من الليل…الدعاء مستجاب في هذه اللحظة التي ينزل فيها ربنا عز وجل إلى السماء الدنيا…هل من سائل؟

أيها الزملاء، من فضلكم اصبروا وصابروا…لا تسبوا أو تلعنوا مكتب التأشيرات…السماء مفتوحة للإجابة…اطلبوا أن تيسر قلوبهم وخواطرهم لنا عوض طمسها! سيكون لدينا متسع من الوقت للعن الكل بعد أن تنفرج! قلت هذا في نفسي طبعا.

العلامات الأولى لفجر جديد بدأت تلوح في الأفق. الخيط الأسود ينساب مختفيا خلف الخيط الأبيض.

في البهو، اختلطت الألوان كما الحابل بالنابل. تفرقنا مجموعات صغيرة. كل الاحتمالات ممكنة! هذا جوابنا جميعا حول مصير الجوازات تحت كرسي السيدة المحترمة…أحد المدراء العامين من فريقنا، جلس على كرسي مباشرة خلف مكتب السيدة المحترمة…كنت أنظر إليه خلسة ومن فوق ناصيته…طاف حول العالم مرات…رأى كل أنواع المطارات وألوان البشر…ولأول مرة يعيش سعادته هذه المهزلة! قلت مهزلة؟ نعم إنها كذلك. سأرسم لكم الصورة كاملة :

يجلس على كرسي صغير…بالقرب منه تجلس القرفصاء امرأة إفريقية تفترش الأرض مع صغارها. بين يديها رضيع يبكي ويصرخ…مشغولة بتغيير قماطه أمام الجميع بعد أن أحدث على الأرض شيئا شكله بين الصلب والسائل وله رائحة كريهة لكنها مألوفة؟ اكتملت الصورة ولا داعي للمزيد من الإثارة فقد تفسد عليك شهية الأكل!

بشرى أيها السادة…فجأة تطل علينا الموظفة المحترمة…فأل خير؟ تبدأ في المناداة على كل واحد منا بشيء قد يقترب أو يبتعد عن اسمه الحقيقي…لم يكن صوتها كافيا لنسمعها من أركان البهو… المرأة المرضعة تقف لمساعدتها متطوعة…فتعيد النداء بالأسماء بصوت عال …تماما كحال إمام ومأموم أو في مزاد علني بأحد أروقة الأحياء العتيقة بمكناس أو فاس.

كلما سمع الواحد منا اسمه يتقدم خطوات نحوها لتسلمه …أخيرا … جوازه وعليه ختم تأشيرة 24 ساعة لدخول دولة الطوغو العظمى. الآن سننتظر لنعرف إلى أين سيأخذوننا قبل أن تنطلق طائرتنا من جديد نحو أبيدجان.

الشمس لم تشرق بعد. الصلاة كتاب موقوت. لا بد من أداء صلاة الفجر قبل فوات الأوان. أماكن الوضوء غير مناسبة. لم يقوموا بتنظيفها بعد. متى سيتم ذلك؟ لا أدري. معي قطعة حجر صغيرة للتيمم عند الضرورة…سلاح المؤمن طبعا… أعني الوضوء وليس الأبيض كما قد يظن سيء الظن!

بعد هذه البهدلة، تحولنا إلى ضيوف كبار. أخذونا إلى قاعة الشرف بالمطار في…أي…بي…  هكذا يسمونها. قاعة واسعة…كراسي فارهة …حمامات نظيفة…مضيفات أنيقات نسينا معهن محنتنا مع السيدة المحترمة. وجبة فطور ثم مشروبات ومكسرات…أنتم الآن ضيوف شرف.

أجسادنا منهكة. حاجتنا إلى الراحة وقسط من النوم كبيرة. الاستلقاء على الأرائك الفخمة مسموح.  لا بأس إذا…لكن عفوا، نسيت… المدراء العامون لا ينامون…يفعلون ما يؤمرون؟ أخرجوا الحواسيب المحمولة…لا أسيء الظن بأحد لان بعضه إثم…آخر اللمسات، ربما، على الملفات التي ستعرض بعد ساعات قليلة في الجمع العام في حضرة السيد الرئيس المدير العام والشريك الجديد. يقال أنه رجل أعمال ووزير سابق في الحكومة العاجية…ترى هل أغناه الله تعالى من فضله؟ لا ضير. اعملوا أنتم فسيرى الرئيس عملكم والمساهمون…أما انا فقد ارتميت على أريكة تتوسط القاعة…أخذتني سنة نوم…بسرعة تبث الاتصال…رأيت حلما عجيبا…غاية في الجمال لكنه لم يدم أكثر من ثواني معدودة كحال اللحظات الجميلة في حياة أغلب الناس. إنها جِدُّ قصيرة.

“شيء ما على شكل بساط أو مركبة…لم أَتَبَيَّن ذلك جيدا، يطوف بي في الفضاء القريب…من علو، أنظر إلى جمال المكان…رأيت شاطئ البحر شاسعا ممتدا، رماله مصطفة بشكل رائع…لاحظت نقشا بحروف عربية لكلمة لم أَتَبَيَّنْها جيدا للوهلة الأولى…حاولت التركيز لقراءتها، لم أستطع…فجأة رأيتُني أطوف على مقربة منها، فكانت المفاجأة…أنها اسم من أسماء الله تعالى الحسنى وقد كتب بخط جميل ! أكيد أنكم تريدون معرفة هذا الاسم الحسن! لن أستطيع البوح به…لأنها مسألة شخصية ورثتها عن الأمازيغية التي كانت بعض رؤاها كفلق الصبح. آسف! ابحثوا لكم عن مثلها. رحمك الله تعالى أيتها الأم العظيمة.

استيقظت على نداء الاستعداد للالتحاق بالطائرة المهيئة للإقلاع صوب ساحل العاج. وكأن تأشيرة 24 ساعة لدخول دولة التوغو العظمى كانت فقط لحضور هذا الحلم الجميل! في الكون عجائب !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top